تحمل أزمة البحر الأحمر الناجمة عن ضرب جماعة الحوثي لبعض السفن التجارية جانبين، أحدهما دعائي لكسب بعض التأييد الشعبي للجماعة وحلفائها مستغلةً الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، والآخر عملي يتمحور حول تأثر التجارة الدولية المارة بهذا الممر الحيوي، وذلك رغم تهويل وسائل الإعلام لتأثيرات عمليات قصف السفن، ذلك أن موازين القوة بين الحوثي والتحالف الذي شُكل لوقف هذه الهجمات ولضمان حرية الملاحة في بمضيق باب المندب لا تقارن حتى بحدها الأدنى.
وفيما لو اتُّخذ قرارٌ جدي بوقف هذه الهجمات لأُنجزت المهمة في غضون أيام، إلا أن ما يتم عملياً هو ضربات محدودة من الجانبين ضمن ما يسمى «قواعد الاشتباك» المتفق عليها بين الأطراف المتصارعة، مع حرص هذه الأطراف على منع امتداد الصراع إلى ما هو أبعد من ترتيباته الحالية. وهو ما ينطبق أيضاً على القصف المتبادل بين إسرائيل و«حزب الله» اللبناني.
ما يعنينا هنا أساساً هو الجانب الثاني المتعلق بعرقلة التجارة الدولية، والذي أدى من بين أمور أخرى إلى ارتفاع تكاليف النقل البحري، بالإضافة إلى إتاحة فرصة ذهبية للمضاربين في الأسواق، وبالأخص أسواق النفط.
والمفارقة هنا هي أن أكثر الدول تضرراً من هذه الأزمة هي الصين والهند بالإضافة إلى روسيا، هذه الدول التي تتمتع بعلاقة قوية مع بعض أطراف الصراع، وهو ما أدى إلى سعيها الحثيث لوقف التصعيد وإيجاد الأجواء المناسبة لحرية الملاحة وللتعبير عن الانزعاج من عمليات القصف التي لم تؤثر في إسرائيل بقدر ما أضرت بالعديد من الدول التي تعتمد في تجارتها بصورة كبيرة على باب المندب وقناة السويس، ومنها الهند والصين، حيث تمر 80% من تجارتهما مع أوروبا بالبحر الأحمر.
وهاتان الدولتان الصاعدتان بقوة يعتمد نموهما على علاقتهما التجارية مع أوروبا والأميركيتين، حيث تَعبر صادراتهما ووارداتهما بكثافة من خلال باب المندب، على عكس التجارة بين أوروبا والأميركيتين والتي تتم مباشرةً من خلال المحيط الأطلسي.
ومع أن الضرر ما زال محدوداً على تجارة الصين والهند، فإن توسع هذه الأزمة يمكن أن يلحق ضرراً بالغاً، ليس بالتجارة الخارجية لهما، وإنما بقطاعاتهما الاقتصادية، وبالأخص القطاع الصناعي، فهما تستوردان الكثير من مكونات صناعتهما، وبالأخص تلك المعتمدة على التقنيات الحديثة والمكائن المتطورة، من الأسواق الأوروبية، فبعض صناعات السيارات الصينية تستخدم تقنيات وآلات أوروبية، وهو ما ينطبق على الهند وكوريا الجنوبية أيضاً.
ويعني ذلك أن أي نقص في إيصال هذه المعدات سيُلحق خسائرَ كبيرةً بهذه الصناعات، وربما يؤدي إلى توقف بعض المصانع، وذلك إلى جانب تأثر موازينهما التجارية بسبب تقلص الصادرات وحرمانها من أسواقها الرئيسية.
وبالتأكيد، فإن هذا الضرر سيشمل دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، لكن بصورة أقل، إذ أن تدخل هذه الدول ضمن قواعد الاشتباك جاء باعتبارها دولاً تتحمل المسؤولية الدولية الأولى عن سلامة الممرات البحرية والنقل بكافة أشكاله، تلك المسؤولية التي التزمت بها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
أما التأثير على دول المنطقة فلا يزال محدوداً هو أيضاً، بما في ذلك دول مجلس التعاون الخليجي، فالتبادلات التجارية لدول المجلس تغيرت بصورة جذرية خلال العقدين الماضيين، لينتقل مركز الثقل من الغرب إلى الشرق، مما يعني أن تجارتها الخارجية، بما فيها النفط والغاز، لا تمر عبر باب المندب المضطرب، وهو ما دعاها إلى اعتبار أن حل هذه الأزمة يخص المجتمع الدولي ككل، باعتبارها أزمة عالمية وليست إقليمية.
لقد أشرنا في مقالة سابقة إلى أن هذه الأزمة لن تطول، وذلك بسبب تداعياتها على دول صديقة لبعض الأطراف المتنازعة والتي يتوقع أن تزداد ضغوطها في الفترة القادمة، وبالأخص الصين، لوقف عمليات ضرب السفن وضمان حرية الملاحة في البحر الأحمر، حيث صرحت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية «ماو نينيغ» قائلةً: «ندعو إلى وضع حد لمضايقة سفن مدنية من أجل الحفاظ على العبور السلس للإنتاج الدولي وسلاسل الإمدادات ونظام التجارة العالمي»، وهو ما سوف تستجيب له جماعة الحوثي وحلفاؤها، أكثر من استجابتها لعمليات القصف المضادة التي قد تتمكن من التأقلم معها.